الفصل السادس: الأوغاد قتلوه
صحب حسن طُلَيْمات حسيناً إلى واحد من
الاجتماعات الحزبية الرفيعة، غير الرسمية، وكان الرجل يعرفه على الجلوس بصوت خفيض
في حين يستولي الاضطراب على الآخر ولا يتركه، وهمس في أذنه يقول :
-"هذا، أجل، هذا،.. بعد دخوله
إلى عالم المال يبحث عن المظلة السياسية، إنه يشبهك من جهة حبه القديم للعزف على
«الدرامز»، لقد بدأ حياته عازفاً ضمن فرقة موسيقية بإحدى فنادق القاهرة الشهيرة
عام 1987م، إن لم تخنِ الذاكرة..".
وجعل الرجل الموصوف يتحدث في لسان طلق
زلق أمام الحضور دون أن يقاطعه منهم أحد، يقول :
- وبالنظر إلى التجارب الإقليمية
والدولية فالمستقبل هو للخصخصة على حساب الاقتصاد القومي.
سلم حسين على الرجل في وجل فيما حاول طُلَيْمات
الوصل بينهما بذكر الحقيقة التي أوردها بالسابق : اشتراكهما في حب الموسيقى، وسأله
الرجل الذي بدا أن قامته القصيرة لا توحي بما يوليه له الجلوس من اعتبار أبداً :
- وأي الآلات تعزف؟
- أجيد العزف على أكثرها، يمكن أن
يكون السؤال هو : أي الآلات هي التي لا أتقنها؟
والتفت الرجل المهم إلى طُلَيْمات
يقول في تندر خفيف :
- لشد ما هو متواضع..
وحاول حسين هنا أن يذكر شيئاً عن
حقيقة أنه لم يقصد التعالي حين ذكر إجادته لمعظم الآلات الموسيقية، ولكن حديثه ذهب
بلا ملتفت أمام سؤال طُلَيْمات لصاحبه :
- وما الخطوة القادمة؟
- نجهز لمؤتمر مهم هو الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا، لعلنا نعقده هذا العام، أو الذي بعده، وسيكون بمحضر نجل الرئيس.
- وأحوال مصانع الجوهرة؟ (يريد مصانع
السيراميك والبورسلين المعروفة باسم "الجوهرة")
- كل شيء على خير ما يرام.
وانفض الاجتماع الذي لم يرق لحسين
حضوره، وتنفس حسين الصعداء وقال لطُلَيْمات :
- رأيت جل الجلوس مذعنين مهطعين، وإذ
كنت محباً للنقاش فقد حاولت أن أورد ملحوظة بأن التحديث ليس منطبقاً تماماً على
التغريب، إن ثمة من النماذج الآسيوية الشرقية ومجتمعات العالم الثالث هذا المفيد
القريب من تجاربنا، أحببت أن أورد ماليزيا كواحدة من النمور الآسيوية، أن أتحدث عن
ثقافتها الفسيفسائية وتجربتها المهمة : من الاقتصاد المرتهن بمزارع المطاط إلى
العملاق الاقتصادي الذي نراه،.. إلخ، ولكن شيئاً ما كان يدعوني إلى الصمت كأني
العالق في جاثوم، علاوة على الأمر الأهم :
لم أرَ الرئيس..
وقال طُلَيْمات في تبرير الأمر الأخير
:
- كان يجب أن اجتذبك بطعم ما، لقد صار
الرئيس أكثر حيطة بعد محاولة اغتياله الفاشلة في أديس أبابا، وبعد يونيو (يريد
الشهر الذي تمت فيه محاولة الاغتيال) لم يعد الأمر كما كان قبلها..
وغضب حسين ملياً يقول :
- بل قل خدعتني ولا تسق المبررات
الزيوف..
وأجابه طُلَيْمات كأنه يسبر أغوار شيء
ما عبر تحريك الزمن ببساطة :
- هؤلاء الذين جلست إليهم وجلسوا إليك
سيكونون فوق الرئيس أهمية بعد عشر أو خمس
عشر سنة من اليوم.
وتطلع إليه حسين مرتاباً يقول :
- فلنتحدث في موضوع آخر.
- بل إن هذا هو الموضوع وبيت قصيده،
أريدك أن تخلفني في العمل النيابي لقاء أن تعلمني الموسيقى، انظر كيف أمنحك عرضاً
جزيلاً رابحاً.
وأجابه حسين يقول كأنما يصده في قول
مقتضب ذي مغزى :
- من أسف أن كلا الأمرين صعب عسير.
- لعلي أقنع بأني بلا موهبة موسيقية
إذ سبق وأفصحت لي معلمة الموسيقى عن الأمر من قبل، وقد تأقلمت مع ما سمعت،.. ولكن
مهلاً، لقد تنبأ جدك بسقوط الملكية قبل البوليس السياسي، والمؤكد أنك ورثت شيئاً
من حسن اسشترافه للمسائل السياسية..
- إن المواهب لا تورث، الله يؤشر
بإصبعه إلى فلان فيصير رساماً أو عازفاً أو سياسياً، ويفسد البشر الأمور حين
يريدون أن يقحموا من لا يستحق، ولو كانوا أبناؤهم وذوي قربتهم، أن يورثوا ما لا يُورث،
إنهم يقولون الابن يشبه الأب في كذا وكذا ويتناسون حقيقة الهبة الجوهرية، إنها
تتناسج كالإلهمات غير المفسرة، إنه ضرب من الوحي والناموس، وشعور بالإلحاح
المستمر، إنهم يستهينون بالمشيئة الطبيعية،.. فلتسمع لي : كان عباس حلمي الأول
حفيد محمد علي، ولم يرَ القطر المصري حاكماً هو أسوأ من الأول أو خيراً من الثاني،
ليس بي أقل العلم بالسياسة ومن ألزم نفسه حدود ما يعرف احتاط وفاز.
وتعثرت محاولات طُلَيْمات أمام عزم
الآخر وحجته القوية، فقال :
- فإن كان ذلك كذلك،.. فلا مناص من أن
تعلمني العزف لقاء ما أسديت إليكَ من معروف (يريد هاته التسهيلات الضريبية
المتعلقة بنقل آلالات الموسيقية من فرنسا إلى مصر)
وقال حسين :
- أعدك بأن أبذل وسعي.
كان حسين يجلس الساعات الطوال كيما
يعلم طُلَيْمات مبادئ العزف الموسيقي وقراءة النوتة، وقد بدا أن الثاني
(طُلَيْمات) لم يؤتَ أقل الاستعداد لما أقدم عليه من الأمر ما خلا رغبته في التعلم،
وقد تجلت الأخيرة في أمور : إذ هو يحضر في موعده أو قبله وفي ثيابه الشبابية ويورد
الأسئلة، ثم هو يجد في حفظ النوت حتى أبدى تفوقاً في هذا الباب : ترميز الأنغام
الحادة والواطئة، وأسقطت المعاشرة دواعي التوقير الزائد فما عاد حسين يستخدم
"سيدي" حين ينادي الرجل الذي ألبس نفسه ثوب التلميذ، وأمسك حسين بالعود
المألف من خشب الورد وتخير هاته المعزوفات التي تناسب المبتدئين على مثال : كان
عنا طاحونا لفيروز، وكل ده كان ليه لعبد الوهاب، وأمل حياتي لأم كلثوم وغيرهم من
مثالهم في مستوى اليسر، وبدا أنه (حسيناً) فقد حافزه في العزف بغتة فجعل يسأل
جليسه (طُلَيْمات) كأنما فطن - متأخراً - إلى حلقة مفقودة في سلسال :
- معذرة، وما دافعك في أن تعرفني
بالساسة وأن تسعى في هذا المضمار سعيك؟
وأجابه الآخر وقد نشزت جديته عن
حقيقته المتصابية يقول :
- حسين،.. إنك شبيه شباهة التوأم بنجلي
الذي فقدته قبل سنوات خمسة في حادث سيارة مروع، وقد كنت لأعده لخلافتي النيابية
بعد عمر طويل، لقد رأيتك في جلستك لدى مائدة الرحمن وقلت : "إنه هو!"،
أعني قبل أن تأتيني حقيقتك، إنك نسخة منه محيرة، ولو أنني آمنت بتناسخ الأرواح
لقلت بأن روحه حلت فيك، لقد افتعلت صداقة جدك بأبي الحفني بحثاً عن المسوغ الذي
يربطني بكَ،.. (ووجه الرجل بصره إلى رخام الأرض حيث تتشاجن ظلال نباتات الحظ يقول)
إنها لذكرى مرة مؤلمة، وجلستي معك ههنا تحتملني على عاتق التسرية فوق لجة الأحزان
الدفينة، ألا هل عددتني والداً لكَ؟
هناك شعر حسين بأنه نكأ جرحاً دون قصد
منه فعاد يضرب بريشة العود مستأنفاً عزفه الذي اكتسب بعداً شاجياً.
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
في أبي تيج..
استعرت بين عبد المجيد وبين زوجه بدور
دواعي الخصومة، وقد رأت المرأة في تعاميه عن مشكلات الريف واقتصار بطانته على مؤنس
ثم استسلامه لحياة الدعة زيغاً عن سيرة نوح وبهاء الدين وما اشتملت عليه مكامنها
من مقاصد الإصلاح والخيور، وقال لها في صوت أجش كأنما اقتدح من لهيب الحمية :
- وما يزعجك من مؤنس وهو الرَجُل النَفَّاع
المخلص؟ ما أكرم هذا الوَصِيف ! إنني ما رأيت أطوع منه معيناً، أو ألين منه ذراعاً
أستند إليه، وإنه ليناديني في الرائحة والغادية بصاحب السعادة، ويزعم أنني أسبق
إلى ذرا العلياء من غيري، ثم يحيطني بأوصاف المهابة فوق ما يخلع عليَّ الخفراء
جميعاً، وأنت وأبناء الريف - أقول فوق ما يخلعه عليَّ هؤلاء جميعاً من طياليس التقوى
وأوسمة المثابة، وحتى لقد عددت مخالطته من مذهبات الأحزان.
وقالت في تبصرة :
- الهامة التي تنحني لكَ في غير
مراجعة ستنحني لغيرك طمعاً في الذهب أو خوفاً من السيف،.. بربك.. أين أخلاقيات
الرجل ومناقبه الخليقة بوصيف العمدة ومساعده؟ أين هو من النبالة ومن الكرم ومن
الجسارة؟ إن المصلحة بوصلته التي يسترشد بها، وإنني ما عهدت عنه إلا مشية متخاذلة
جديرة بفَلّ يتوخى سلامة الفرار بعد أن انتكست جماعته في معركة، إنه مُدْقِع
وأَنْفُه في التُّرَابِ،.. لعلك تريد أن تبقي المسافة هائلة بينك وبين الرجل
الثاني كيما تريح نفسك عناء المتطلعين، وإن حاجتك إلى من يقول لكَ "حباً
وكرامة" هي فوق حاجتك إلى من يقول "سمعاً وطاعة"..
وقال عبد المجيد فيما يبتسم مؤنس -
الذي كان يتصنت على حديث الاثنين - بمجرد حديثه :
- إنني لا أصدق في الأخلاقية كغاية في
ذاتها وإنما أصدق فيما هو نافع مفيد، وما من رجل هو أخلاقي جداً، متواضع كل
التواضع، إلا وحدثت نفسي حين بصرت به فأقول : كم أن هذا الرجل هو زائف مصطنع، ثم
أتساءل : ماذا يريد من وراء هذا الزيف الذي هو يعرض للناس بضاعته؟
وحدست المرأة بحقيقة أن النقاش مع
بعلها هو عبث لا جدوى منه ولا طائل من ورائه، كان الرجل في كبر يرى معه المعارضة
له نكتة سخيفة وتطاولاً غير مسموح به، فقالت كأنها تلقي بعبارتها في بركة آسنة
متشبعة :
- لقد اختفى بكر ثم غيّب الموت تسنيم،..
ألا هل اتعظت من ذكرى الغابرين؟ وإني لاحقة بالاثنين ما دمت مصراً على ألا تبرح
هذا الحال.
وغضب غضباً شديداً حتى ساءت نبرته :
- تريدين اللحاق بأخيك الرعديد؟ ألا
هل أسرعتي إلى مأربك؟ فلتسمعي لي يا ابنة الرجل الطيب : إن لدي باباً واحداً يدخل
منه طالبي، وسبعة لمن شاء الابتعاد.
رحلت تسنيم في غداة هذا التحذير
الشديد، ولقد انتوت البحث عن أخيها بكر في الإسكندرية فتمني نفسها بإعادته إلى
الحظيرة التي عصف بها الغرور، وأتى الصلف على بنيانها الكريم، عساه أن يعيد إليها
شمائلها المفقودة من بوابة ما جبل عليه (بكر) من تواضع هو سيد الشمائل كلها،.. كان
مشهد وداعها حزيناً مصادفاً لميقات المغيب ذي الحواشي القرمزية في الأفق كأنها
التهاويل والدرر الحمراء، وحاول نجلها منتصر -
ابن الثامنة - أن يستبقيها ولكنها أوصته بطاعة الأب ريثما تعود، ومضت بين
الخسران وبين العزم وقد هيمن الأسى الذي بدا أبدياً ثقيلاً، ومضى مؤنس يرقبها يقول
شامتاً :
- إن هذه إلا مشية الفل المنكسر بحق !
يا من رميتني بها..
ومضى يتبعها في سعيها الخافت - كأنما
لم تشبعه رؤيتها لمرة - حتى اعترضه ملثّمان، هناك جف وارتجف، وفزع ووجل، وقال له
منهم واحد:
- أما سمعتِ أن الشماتة مما يجافي شيم الرجال؟
وقال الرجل في اضطراب عظيم :
- إنني ما عددت نفسي على شيء منها (أي
شيم الرجال)، سيدي، صاحب السكين ذو النصل اللامع.
وقال له الآخر في ابتسام دون أن ينزع
عن عنقه تهديد السلاح :
- بل أنتَ كذلك،.. ونريد أن نعرض عليك
مهمة هي من مهامهم (أي من مهام الرجال).
انكفأ الوجود في محضر الليل ذي
السدال، ثمة شبح آدميين من تلامذة حمروش يصعدان الشجرة المخروطية الكبيرة، لقد
أبعد مؤنس الحرس من الخفراء مثلما أمره ملثما المغيب، وها هو ذا عبد المجيد ينثر
الطيب على عباءته قبل أن يستسلم للنوم في دواره الهائل ذي الدرج الرخامي، هذا الذي
فرغ إلا منه ومن نجله ذي الأعوام الثمانية، لقد نازعته نفسه إلى التفكر في "حقيقة"
عظمته وما أنجزه في يومه، في هذا المجد الذي يمشي حذوه ولا يسبقه،.. بيد أن صوتاً
باطنياً يحدثه فيقول :"لستَ عظيماً ماجداً، وإلا كيف انفض عنك أقرب
الأصدقاء؟"، كان ضميره يقظاً ربما لأول مرة منذ مني بامتحان العمودية وتسربل
الوجود في ذهنه ببهرجة الأوهام الزائلة، واِسْتَحاَل النوم في ظل صحوة ضميره الذي
تألب عليه، كان يتقلب ذات اليمين وذات الشمال يجالد نفسه في طقس حار حتى نزع عن
بدنه المتعرق غطاء الاستبرق الخفيف، وصرخ يقول وهو يعود ينير الأضواء كأنما يحدث
صوت ضميره :
- ألا هل صمتَ قليلاً ريثما يرى الأفق
نور الصباح؟
وعاد في هدوء إلى مضجعه حتى نام في
عسر بعد أن خلع العباءة والخاتم، كان شبح الرجلين الملثمين قد تسللا إلى حجرته
المعتمة عبر هذه النافذة فأجهزا عليه في نومته، وفي باكر أيقظ منتصر أباه فهلع
الصغير حين رؤية السكين الناشب في عنق النائم والمضطج المخضب باحمرار الدماء، هكذا
احتفرت في ذهن الصغير ذكرى مستحيلة النسيان،.. ولقد سرت الفاجعة في الأنحاء
الريفية الهادئة فتندر الخلائق من تقلبات الأيام، ووضع مؤنس يده على كتف الصغير
منتصر يقول مندباً كأنه الجاهل بما قد وقع، باكياً والمنافق يملك عينيه :
- الأوغاد قتلوه غيلة في نومته، قتلوه
مثلما قتلوا رفاعة.. !