الفصل الثامن: هذه قصة سمعتها منكِ مئة مرة
في جليم وبرج العرب..
داوم فؤاد على تربية الخنازير في
مرعاه ببرج العرب حتى بعد وفاة شريكه عاطف، كانت تجارته الرابية أقوى من تحذيرات
امرأته، أو حتى قناعاته الدينية،.. وقد رأى - في سبيل توفيق أوضاعه الدينية
والدنيوية - أن بمقدوره أن يطيع الإله في أبواب أهم من هذه (بوصفه)، وألحق بزوجه
المسيحية تشدد الحنابلة في هذه المسألة حتى التبست عليه الأمور، وافتعل القناعة
حتى كانت في نفسه حقيقة،.. وكانت له حيلة أراد أن يمرر بها الأمر على زوجه فجاء بعماد
أمام أمه غادة ولقنه بضع كلمات فجعل الفتى يقول كأنما يجترح أكذوبة فيجتهد في
تأليفها مستنداً إلى حقيقة :
- وهبتني جدتي هدى صحناً نادراً من
الفضة هو من خواص ما تملكه، وأوصتني به توصية مغلظة صرت أخجل بعدها من مجرد أن
أفكر في تفريطي فيه، (ثم وهو ينظر إلى أبيه نظرة كأنها طلب الاستوثاق في تردده
السردي..) وقد ابتلعه الخنزير في بطنه، ولسنا نعدم هاته (أي الخنازير) أو نتخلص
منها إلا حين نستخرجه (أي صحن الفضة) من بطونها، أو يلوح أثره في روثها.
وعلى هذا النحو استبقى فؤاد تجارته
على تحفظ زوجه حيناً من الدهر، وتحلل عبر توسله خصيصة المناورة ورذيلة الاختلاق من
وجوب تركه لعمله الذي يؤثمه ويكسبه،.. وفي موقع آخر فرغ فيه إسحاق من مبارزة السيف
بالنادي تحول الشاب إلى أخيه عماد الذي كان - مثلما هو مفترض - أن يكون هناك يؤدي
تدريباته الصباحية، وألفى إسحاق الصالة خُلُوّاً من أخيه فساءل المدرب عن مأربه
وأجابه :
- بات أخوك (أي عماد) كثير الغياب بعد
خسارته لهذا النهائي، واليوم لم يحتمل مشقة التدريب وانصرف..
وحمل المراهق ابن الثالثة عشر حقيبته
ومضى قلقاً رغم ما يفرضه المورفين الناتج من ممارسته الرياضة من استرخاء، وقد بث
القلق في نفسه ارتياباً يتمازج فيه السؤال بالخوف، فساءل نفراً من العاملين النادي
ممن كان كثير الوقوف لدى هذا الباب عن أخيه، وأجابه منهم واحد يقول :
- رأينه يمضي من هذا السبيل بعد خروجه
من البوابة.
اقتفى إسحاق هذا الوصف الشحيح حتى طفق
يسأل المارة عن وجهة شاب في مثل عمره -
وقد كان عماد يكبره واقعاً بزهاء ثلاثة أعوام - له عين الهيئة، مضى من هنا،..
واصطفى لسؤاله الجلوس على النواصي والمقاهي لكونهم مراكزاً للرصد مستقرة، وبمقدور
هؤلاء (أي جلوس النواصي والمقاهي) في بلادنا أن ينظروا لكل من يعبر بهم دون كلال
أو سأم أو غرض،.. فلم يظفر بعد السؤال بشيء ذي بال، ومضى يركل حصوة ويستدعي حقيقة
اعتزازه بتفوقه في رياضة المسايفة : رياضة النخبة والطبقة الأرستقراطية بالماضي
والتي صارت في قدرة الطبقة المتوسطة أو ما فوقها أن تمارسها اليوم، وقد صار شاعراً
على حداثته بهذا السموق والترفع كأنه المنتمي إلى طبقة النبلاء في عصر قبل اليوم، حتى
لقد رأى نفسه في سترته ذات الحزام الكرويسرد وخلف القناع وهو يوجه أحد الضربات
الصحيحة لخصمه، وكان مما عمق المفارقة في هذا الخيال أن رؤيته لنفسه في هاته
الثياب المعاصرة للمبارزة كانت في مدرسة إيطالية للمبارزة من عصر النهضة في القرن
الثامن عشر،.. بيد أن القلق الذي أحسه أول سماعه لعبارة مدرب أخيه عاد ينخر أسس
هذا الاعتزاز كما يفسد الماء قواعد المبنى الراسخ عظيم الشهوق، وقد استقر الآن في
نفسه كحقيقة يائسة تبثها فيه مسؤولية غريبة - عادة - عن الأخ الأصغر، وأزعجه حتى
استعصى عليه أن يزيد في خيالات نفسه وقد أخذته عاطفة قوية تجاه أخيه،.. لقد كان
هذا الأمر إذا واحداً من الصوارف القوية التي حملته على أن يقف فوق الطوار في لحظة
استشرف فيها حقيقة أنه يسير وحيداً في سبيل عريض تقوم على جانبيه الحوانيت ويزيد
عن مستوى نهره طوارين، وكان كأن طاقته قد أفرغت - بعد الاعتزاز والأسى- فوضع
إصبعيه في أذنيه متوقفاً هنيهة، وألجم مسامعه كأنه يريد أن يفرغ إلى شيء ما هو عميق
في ذاته غائر في بواطنه، وقد شجعه أن لا راصد لحركته، هذا قبل أن يخترق حجاب
إصبعيه صوت ضحكة ماجنة، فأزالهما (إصبعيه) عن مدخلهما ومضى يقتفي أثر هذا النُشُوز
في البيئة الهادئة كنتوء الأرض المعبدة، حتى تبين أن باعثها (الضحكة) حانوت
الخياطة الذي كان قد عبر به لتوه، وعاد بعد أن عبر ببضع حوانيت مغلقة للملابس تبدو
من زجاجها تماثيل مطموسة الوجه لعرض الثياب - أقول عاد إلى حانوت الخياطة الذي كان
موصد الباب يتلصص ويسترق السمع كمن حضره هاتف غير مفهوم الباعث فاستجاب له في
غرابة ورهبة، وسمع من يقول فيه قولاً محملاً بالإيحاءات :
-
لشد ما أنتَ بارع،.. أهذا هو التايكوندو؟
كان هذا صوت أنهار، وأما عماد فيلعب
مع المرأة بالعصى على إيقاعات واحدة من الأغنيات الشعبية، فأجابها يقول كأنما أشفق
من أن يكاشفها بالحقيقة في هزل مرح :
- لعله شبيه به من وجه، أو بعض وجه.
ثم استدرك يقول في نبرة يثبط الأسف
انطلاقها الأرعن :
- ولكنني في الأولى أصارع الخصم حتى
أجندله، وفي لعبة العصى أصارع طواحين الهواء.
وساوره (عماد) شيء من الحزن لحال ما
كان عليه وما انتهى إليه، وأجلسته المرأة التي تكبره على كرسي دوار، وسألها :
- بربك، تبدين كمن يجهل بديهيات
حاضره،.. ماذا تعرفين إذاً؟
وقالت في عفوية تجملت بها :
- إنني غجرية، ستجد مثلي كثر في حي
غبريال بالمدينة، أجل، وأعرف صناعة المناخل من شعر الخيل، وأجيد عمل المسامير
والرقص الشعبي وتدريب القرود وأعمال البهلوانات في الموالد، (وصمتت هنيهة حتى بدا
أن جعبتها قد فرغت قبل أن تعاود تقول)، قراءة الطالع، وعمل الوشم، وتتبع مسارات
النجوم وأوراق التاروت.
وكانت المرأة خلافاً لطبيعة الغجر
المتحفظة كثيرة الجهر بأصلها، وقالت كأنها تفكر في هذا :
- إننا كالملح في كل مجتمع، وإننا
نضطهد بلا ذريعة أو سبب حتى صرنا من التماس القوة في خشية،.. هل أتاك حديث الغجر
والزير سالم؟
ونظر إليها يقول :
- سمعتها منكِ مئة مرة ولكن أحب أن
أسمعها كرة أخرى.
وسعدت بجوابه فقالت في مرارة تتسرب
تدريجاً محل السعادة :
- كان صراعاً قد نشب بين الزير سالم
وابن عمه جساس حول رئاسة القبيلة، صراع الحوزة والغلبة، لقد خدع الزير سالم جساساً
وانتصر عليه، ثم لعننا بركوب الحُمُر إلى الأبد، لقد ضرب علينا الترحال والسفر
الأبدي، وسيظل كل مكان تضيئه الشمس موطناً لنا، لقد التمسنا الرقص والموسيقى
وأقمنا عَمُود الخيمة في وجه عواصف الأذى، وروينا وهج الهنجارية بماء التسامح
والعطف،.. هنا انتهت القصة وبقت الكراهية المضمرة نتوارثها تجاه الزير سالم، لقد
ظلمنا في هاته الموضوعة وفي غيرها، قيل أننا نحمل معنا المرض والخوف وألصقوا بنا
ما ليس فينا (هناك حدقت إليه ملياً، تتساءل:) أتراني امرأة تحمل المرض والخوف؟!
ولزم الشاب الصمت ملياً، صمتاً محملاً
بالتنزيه والنفي، وانتظر هنيهة لعلمه بإضافة قيمة تضيفها المرأة في أعقاب كل مرة
تسرد فيها القصة :
- إننا نعتقد بأننا «عرب جساس»، دون
أن تغير الهزيمة من هاته الحقيقة إنشاً، إذ أن الهوية ليس مما يختاره المرء أو
يغيره كما يتوهم المتوهمون، إنها الجذور والأصل والحقيقة،.. هل أحدثك عن حوش الغجر
خلف سور مجرى العيون ملاذ المطاريد من الصعيد؟
اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص
واكتفى عماد بما قد سمع من أحاديث
الاضطهاد والإجحاف عند هذا الحد فأجابها الرجل بكلا، غسلت أنهار بدورها شعره بزيت
الزيتون حتى صدر عنه بريق لمعان على خشونته، وقد بدا أن الابن قد تدارك خفة شعر
أبيه في هاته المنطقة الوسطى من رأسه بغزارة ووفرة شعره في عين المنطقة من رأسه،
وإن بدا شعره مجعداً - خلافاً لشعر أمه غادة - فغلبت الصفة السائدة على هذه
المتنحية في هذا الجانب،.. وقد بدا هذا الشعر المجعد المغسول بالزيتون، ومن وجه
ما، كنبت الخزامى المرتوي بالماء، وزلفت إليه (عماد) أنهار حتى صار قربها منه مما
يربكه، وبصر بشعرها المصبوغ بالأصفر مما يعده الغجر من علائم الجمال، وتطلعت إلى
صورته الجديدة بعينين قريبتين شاخصتين، وقالت وهي بالكاد تلمس وجهه بإصبعها البض :
- ما أجمل هذه (تشير إلى شعيرات ما
بين الحاجبين) !
وحمله إصبعها على أن تتقارب عيناه كما
تتقارب عينا الأحول، قال في حماس هو أقل بأشواط :
- كنت أحسبها عيباً في صورتي.
وابتعدت منه فصدمت الكرسي الدوار حتى
استدر 10 أو 20 درجة تقول كأنما خبرت بما يشين :
- بل ما من عيب هو في صورتك.
وقال كأنه يحتاط من مقاربة هذا السبيل
الشيطاني فيغالب نفسه ومن أمامه :
- مهلاً، مهلاً، ثمة حدود قمين بنا
ألا نتجاوزها، لقد ذكرتِ لي شيئاً عن حقيقة أن الغجرية لا تتزوج «الإفرنجى»،
وأنشدت لي واحدة من هاته الأغنيات التي تصف العشاق الذين أحبوا بنات الغجر دون أن
يظفروا بالنوال بهن.
وقالت :
- لا حدود في الحب.
ونهض عن كرسيه فعاد ينظر إلى صورته في
المرآة فيضبط هذه الشعيرات التي اضطربت وشعثت بلمسة المرأة، يقول :
- الحانوت هنا مجال لهو، وسأظل صارماً
حول حقيقة أن لكل شيء ضوابط تحكمها،.. وحتى اللهو.
وظلت المرأة مدة تجتهد أن تستوعب حديثه
المتناقض إذ أن وجوده ههنا في ذاته كان مما ينطوي على مخالفة للضوابط حتى نظر إلى
ساعته فأزاد يقول لها :
- سأنصرف قبل أن يعود جابر.
وتساءلت :
- أراك تخشاه وفي وسعك أن تجندله،..
كما علمتك الرياضة.
وقال وهو بالكاد يتأهل ليقف عند هذا
الباب :
- وكأنك تحرضينني على أخيك..
وقالت في غيظ مكتوم :
- إنه جدير بالهلاك، اشتكيته في مجلس
المغارمة ولكنني أقسم بأن كبير الغجر منحاز إليه.
وقال عماد لها وقد خطا بضعة خطى إلى
الباب :
- القانون هو ما يجب أن يتوخاه مغموط
الحق والمخضود ويسير في مجراه دائماً، لا الجلسات العرفية كما بالصعيد ولا مجلس
الصلح كما بالأرياف، ولا المغارمة مثلما تتحدثين في عرف الغجر،.. ما كل أولئك إلا
عبث منحدر من أعصار التخلف وأعراف البدائية، إنه وحده (أي القانون) شريعة الدول
الحديثة ووسيط الحكم بين المتنازعين.
وقالت في تناقض غريب :
- إنني في شفقة من أن أشتكيه إلى
الحاكم، (ثم كأنما تقرأ ما بنفسه إذ هو يستعيد في باطنه حضها له على "جندلته"
منذ قريب) وأحسب أن يدك ستكون أرحم به من يد القانون.
هناك فتح عماد الباب فاضطرب إسحاق
الذي جعل يركض، وما كان عماد بجاهل عنه حتى تيقن من افتضاح أمره،.. وشى إسحاق إلى
أمه غادة بتخلف أخيه عماد عن دروس التايكوندو في مطبخ البيت فيما كانت تعد الأم
الأرز بالشعرية فيخرج هذا البخار الكثيف من القدر، لقد ذكر الأخ هاته الحقيقة دون
أن يلتفت (إسحاق) إلى وقائع ما رصده في حانوت الحياكة من قريب أو بعيد، وثارت غادة
ثورة الذهول، وانطوت على أسف، قالت لفؤاد :
- ألا إن هذا لهو حصاد تجارة الخنازير
! إنني لنجني نتاج رَوَاح البركة والرعاية ! أردتهما أن يلزما أداء الرياضات منذ
الصغر كيما أجنبهما الانزلاق إلى مفاسد الأمور.
وكان انفعال الأم للأمر الهين قد أوحى
إلى إسحاق بكتمان المزيد مما يعرفه، ورنت العبارة "مفاسد الأمور" في عقل
إسحاق رنيناً مقبضاً، وما كاد أن يذر المطبخ حتى اختطفته يد أخيه عماد في حجرته،
وهناك عصر رقبته ينذره :
- فلتروض لسانك على الصمت إن أنتَ رمت
السلامة..
ودفعه إسحاق في حركة رشيقة خليقة
بلاعب مسايفة متمرس، وتملص من قبضته الشديدة يقول وقد حوصل حديثه وبلوره في جمل
قصار لما كان لا يزال في شهيق وزفير يتعذر معه الحديث الطويل :
- إنني ما نطقت إلا بالحق الذي تعرفه،..
وقد اقتصدت في عرضه لما خشيت على أمي الصدمة،.. وقد حذفت ما كان بينك وبين الغجرية
التماس الرحمة بها (أي أمه)،.. وأحسبك مكبر لي لو أنك أنصفت جانبي،.. حاشا لله أن
ضرب في العماية أو أن أجترح الأَفَائكُ.
وأبدى عماد دهشة زائفة وجهالة مصطنعة يقول
(كأنه يتمثل "عبد الله الأهبل"!) :
- من تقصد بالغجرية؟
وقال إسحاق وهو يضع يده على شعر أخيه
اللامع قبل أن يدفعه الآخر، في عزم مؤزر بالحقيقة :
- صفراء الشعر التي رأيتها في الحانوت
تغسل شعرك المجعد بماء الزيتون وتزين لك سبيل إبليس.
ومنذ يومئذٍ صار عماد كثير التربص
بأخيه وقد حذق أن الآخر ملك سيفاً مسلطاً على عنقه، ورغم أن إسحاق ما كان يهدد بـ
"سيفه" أو "يطوحه مستهتراً" بل هو يتقي إظهاره من جعبته
الإتقاء كله - أقول رغم هذا فقد كان عماد كثير القلق من أخيه كأنه المتأثر بمعنى المثل
: يكاد المريب يقول خذوني، وخلص عماد - لما شق عليه تهديد أخيه - إلى انتظار يوم
يترافع الخصمان فيه إلى حكم الأسرة : فؤاد الذي كان بدوره غائباً في ضيعة تجارته
ببرج العرب !