روايات، استمتع بأفضل روايات الرومانسية وروايات الرعب وروايات التاريخ في موقع واحد.

روايات، استمتع بقراءة والاستماع لروايات الرومانسية والرعب والتاريخ والخيال العلمي والبوليسية،

عشرات القصص المثيرة والحكايات في انتظارك.

2024/12/03

سنصل أقرب مما نتصور

                الفصل العاشر: سنصل أقرب مما نتصور






1991م.. 

تتواتر الحِقَب والعقود على المدينة في سعيها الدؤوب، وفي التسعينيات بشائر ثمار التقدم في العصر الحديث، وبقايا الماضي الذي لا يُمحى، وتتصالح الأشياء بطول الاختمار مع حركة الزمان، ويقف المراقب أمام عصف الأحداث كمن يلقي زهرة في مهب الريح، وتنطوي الظواهر على حس ساخر وتبصرة جذلة، تحتفران في صقع الذهن كما تحتفر الأقدام مواضعها على التراب،.. وكانت سميحة تركض وراء عربة الكارو في ظهيرة اليوم فجعلت تنادي : 

- فلتتوقف، سيدي، الجواهرجي، فلتتوقف.. 

وتوقف سائق العربة : مأخوذاً بما سمعه لأول مرة من وصف : سيدي، وقد ألف الوصف : العربجي فما عاد يجد عنه محيصاً على كراهيته له، ونادى على حيوانه بعد ضربة السواط : 

- فلتتوقف دنجل.. 

هناك استجاب البغل لسائقه فتوقفت العربة ذات العجلتين، واتزن تكوينها بفضل حمالاتي الحديد على المسطح الخشبى، وسألها الرجل عن مبتغاها يقول :

- أعذريني أيا ذات الشعر الخشن، تبدين لي كمن مسه رَهِقَ، ما من وقت أضيعه في مخاطبة الصغار، وأرجو أن تحملي في جعبتك ما يستحق..

وآلمها حديثه كأنما كرهت أن تولي الاحترام الزائد لمن لا يستحق، ولكنها قالت في عزم موقن : 

- جئت لابنك عزت بما سيرد له كامل بصره. 

وتهلل الرجل ملياً، يقول كأنما ينقلب كلية دون تؤدة :

- طوبى لذات الشعر الخشن ! لقد رأيت الخير في يديك منذ حضرت عين اليقين، وأنتَ، دنجل، سأطعمك اليوم حتى ترضى من الشعير. 

وتلقَّف منها الرجل عطيتها تقول فيما يهبها الرجل انتباهاً ضعيفاً متأثراً بوهج النعمة التي لم يحسب لها حساباً قط: 

- الفضل في هذا ليوسف، إنه رجل دمث ولتدعو الله أن يفك كربه.. 

وقال الرجل وعيناه يكادان يقفزان من مجحريهما في شهوة الحوزة : 

- سأدعو له بحق كل ورقة.. 

مضت عربة الجواهرجي في مسيرها فيما جعلت سميحة تصطفي لنفسها مساراً معاكساً في حركة أبطأ وقد انطوت على رضاء من أوصل المعروف إلى أهله، وارتقت درج البيت وهي تتذكر عهداً كانت تعين فيه عزت على ما قد ألم بحاسته، معتقدة بقرب شفاء الرجل من إعاقته وآملة ألا يعود يبقى للأمر إلا الذكر والذكرى، وكانت قد احتفظت لنفسها بورقة مالية من عطية يوسف من فئة مئة جنيه، واشترت بجزء منها ألبوماً غنائياً لحسن الأسمر هو : عيون ست البنات، وعادت إلى ألكسندرا - التي استقبحت ذائقتها الموسيقيىة حين استمعت لأغنيات الألبوم فكانت الفتاة الأجنبية إلى الهيب هوب أقرب - وقالت لها في شأن ما فعلته بالظهيرة كالمستنكرة وكانت قد بدأت تجيد شيئاً من العربية وإن ظلت تنطق المفردات بلكنة فرنسية : 

- بربكِ،.. هل منحتِ النقود للأب؟ وما منعكِ أن تهبيها لصاحب الإعاقة نفسه؟

وأجابتها مرتبكة تقول :

- أنني خشيت أن يظن بأن وراء إشفاقي على حالته ما ليس فيَّ من عاطفة نحوه، ثم إن هذا أبعد من المن والأذى والحراجة بوجود الوسيط.

وقالت الأخرى لها :

- تجربتي القصيرة في المدينة تدلني على أن الاحتيال فيها فوق النزاهة، وحيلة النزيه هنا مقصورة على أن ينكفئ على نفسه.

واستنكرت سميحة ما تبدَّى لها من عسف الحكم وإطلاقه بعموميته، قالت : 

- إلام ترمين؟ هل سيحتفظ السيد الجواهرجي بالمال لنفسه ويترك نجله المريض في تيه الظلمات؟ بحق السماء سيكون شراً من أبليس لو أنه فعل. 

وابتسمت ألكسندرا مما بدا لها من سذاجة محدثتها وما توليه للأشياء والشخوص من توقير زائد، تقول : 

- تقصدين الحوذي سائق البغال وليس السيد الجواهرجي،.. وكل شيء غير مستبعد هنا. 

وقالت سميحة غاضبة : 

- مهما تكن هويته،.. لا يمكن أن تنطوي نفسيته على أنانية بحجم الأرض كهذه. 

ومرت بسميحة أيام من الاستنكار والغضب الذي لم تقف على علته، إنها تفكر في مصير عزت والمال دون أن يترامى إلى سمعها أنباء البشرى والمعجزة، لقد كان غضبها يتزايد بكرور الأيام دون أن يجرها الأمر إلى سؤال الأب، وكانت تخشى من إخفاق طبي ينتهي بعيني عزت إلى انطفاء كامل، وعدت الصمت وشُحة الأخبار دليلاً على نجاعة العملية المرتقبة، وحتى كان يوم تقف فيه بالمطبخ فتغني لحسن الأسمر موالاً بصوت مقبول - أقول فيما هي كذلك سمعت فيه صوتاً شديداً دل على ارتطام أو سقوط، وهرعت من فورها إلى مصدر الصوت : السلم فألفت من تعثر فيه، وكان المتعثر عزت فمكثت تدقق النظر إلى وجهه فكان المنطرح لا يزال يستر عينيه بنظارته السوداء، وقالت وهي تمد له يداً : 

- آسفة إذ لم أسمعك تنادي على عاداتك حين تريد من يعينك على الصعود،.. هل فشلت العملية؟

وسألها الرجل في ذهول : 

- أي عملية؟!

وانفتح الباب فلاح الجواهرجي (الأب) الذي بدا أن جلبة السقوط جذبته - مثلما جذبت سميحة - وهناك تقدمت إليه غضوبة تقول كأنها تنفجر بما في نفسها من النقمة : 

- هل سرقت المال لنفسكِ؟ 

ومكثت الفتاة تضرب صدره بلكمتي يديها في غضب أهوج، ودفعها الرجل ثم مسح قميصه يقول : 

- فلتسمعي لي : كانت لي عربة حنطور هي بعجلتين اثنتين وقد أحسنت استخدام المال في إحالتها إلى أخرى ذات عجلات أربعة هي من خشب السنط، والأخيرة بمقدورها أن تحمل فوق أطنان ثلاثة، وأن ترفع ما يربو على ألفي طوبة، إن هذا خير لعزت ولي..

وصاحت سميحة بالرجل وقد استحالت نقمتها عليه من الصورة البدنية إلى اللسانية حين أدركت استحالة تفوقها الجسماني عليه : 

- ما كان هذا اتفاقي معك.. 

ثم هي أقذعت له وأفحشت في القول من واقع شعورها بالغدر، وجهرت بالسوء غير المكروه في أحوال الإجحاف، وأجابها الرجل في مفاخرة تستجدي التنصل من غباء :

- فواعجباً، لقد صنعت صنارة وأنتِ تريدين لي أن أبدلها بسمكة ثم تتهمينني بالاحتيال وتنسبين إليَّ وصمته؟ ليس بيني وبين الصغار عهد..

ثم التفت إلى نجله الذي كان قد استعاد وقفته يقول : 

- إن عزت مصاب برمد ربيعي بسيط،.. وإننا لنقطر المطهرات في عيون المرمدين، أليس كذلك، بني؟! 

وأمسك عزت بيد سميحة فمضى بها حتى دلف إلى بيته وأجلسها على طاولة هي ذات مفرش يدوي التطريز، وكانت البسط متواضعة والأثُث زاهدة الزخرفة والإتراف بما يليق ببيت سائق كارو، ما خلا غرامافون (الحاكي) قديم، وفازة نحاسية ذات مقبضين استوت فوق المفرش المطرز، ثم فرس بحر محنط، وقال لها عزت كأنما قرأ ما بنفسها:

- كل من يزورنا يسأل عنه ويتوقف عنده (أي فرس البحر)، إنه جالب للحظ والرزق، علاوة على أن لعينيه (يريد في حياته) استقلالية حركة تمنكه من النظر إلى الأمام وإلى الخلف..

وقالت في أسف ومجاملة : 

- كنت سترى كفرس بحر لو قمت بالعملية. 

  اضغط على رابط الصفحة الرئيسة لمزيد من الموضوعات : روايات قصص

وابتسم دون أن يعقِّب وقد بدا أنه لم يقف حقاً على حقيقة ما في نفسها من أسف، وحققت الفتاة في صورة سعد زغلول المعلقة، وكان طربوشه وشنبه حقيقتين غريبتين عن رشاقة التسعينيات، وإن صُبغت الأشياء بما أحاطها من يأس وتهكم بصغبة عبارته الشهيرة : "مفيش فايدة!"، وقال لها الرجل (عزت) مبتسماً وقد أدرك ما بنفسها على ضعف رؤيته لها : 

- لم يجد العربجية من نصير فوق زعيم الأمة،.. (وهنا أغمض الرجل عينيه كلية ثم واصل يقول في أداء تعبيري يجسد ما يراه في ظلمته..) كان انتشار سيارات الأجرة نقمة على أمثالنا من الحُوْذِيَّة (سائقي العربات التي تجرها الخيل) الذين لاذوا بدورهم إلى بيت الأمة، أو بيت سعد، كانت يضربون كرابيجهم في تظاهرة غاضبة، وحين بلغت مسيرة الحوذية غايتها، استوقفها بواب بيت الأمة واسمه عم آدم يقول : "إن الباشا يتناول إفطاره..".

فتح عزت عينيه وهو يقول في نبرة أشد كأنما يتمثل نبرة غيره : 

- ثارت ثائرة الحوذية : كيف يأكل سعد إفطاره فيما نكاد نموت من الجوع والطوى؟ (وعاد يغمض عينيه في نبرة أكثر هدوءً) ترك الباشا إفطاره دون أن يتم طعامه، وخرج إلى شرفة السلاملك كيما يستقبل الحوذيين الغاضبين، وقال قائل منهم : ‏إن الحنطور صناعة مصرية وأما السيارة فصناعة أجنبية‏, والشعير الذي تأكله الخيل يزرعه الفلاح المصري‏، وبنزين السيارات يستورد من عدوتنا إنجلترا‏،.. الأمر على هاته البساطة.

وبدت الأمر على حال من الهدوء حتى هتف الرجل يقول : 

- قال سعد : "إني حوذي مثلكم، ومهمتي أن أصل بمصر والسودان إلى مآل الاستقلال."،.. لقد نظر في عيون الحوذية وحقق فيما تبدى منهم من عزم يقول : "أجل، إنني عربجي دون كرباج !"، وأقنعهم بعدئذٍ بضرورة مواكبة العصر وتقبل أحكامه حين ملك قلوبهم بتواضعه،.. وقد وضع جدي صورته ههناك إكباراً له فما اجترأ أبي على إنزالها من بعده.

كانت سميحة تحك شعرها الخشن ولم يكن في نفسها التأثر الذي توقعه عزت بالقصة القديمة، وقالت كأنما تستجلي حقيقة وراء الأقصوصة العابرة :

- لماذا تنسب نفسك زوراً إلى الحوذية؟ إنك موظف مثلما أخبرتني يوماً.. 

وأجابها (عزت) يقول : 

- كان أبي حوذياً وجدي كذلك، والعرق دساس دخّال لسابع جد، والأخير (أي جده) كان هاوياً للموسيقى حتى ابتاع لنفسه هذا (يشير إلى الغرامافون)، وقد كان كثير الاستماع إليه حين أصيب بالعمى في سنواته الثلاثة الأخيرة،.. قيادة الحنطور إذاً مهنة المزجنجية كجدي ونزهة السياح والعشاق، ما في الأمر من وصمة، إننا عائلة من الحوذية وكوني نشزت عما امتهنوه لا ينفي حبي لقياد الكارو.

وقالت كأنها تمسك بطرف من حديثه وتترك ما عداه : 

- إن أباك غير آمين حتى أنني أقدر ذمته بثلاثة قروش، لقد احتال وتمحل،.. إنه يزعم أن ضعف بصرك هو رمد ربيعي، وقد ارتأى في عجلتي حنطور مثابة فوق شفاء عينيك.

هناك خلع عزت نظارته السوداء، ثم ابتسم وهو يرقب خلاء الحجرة من الأب يقول وهو يجلو ناظريه : 

- لقد دبر لي الصالح دائماً، إنه رجل صعب المراس لم تخدره الرفاهية، وقد عركته الحياة حتى صار ممسكاً بعنق الواقع. 

وصمتت سميحة صمتاً مطولاً كأنما تعيد ضبط أحكامها على الأمور فتزنها بشواهد ما تراءى لها من الحقائق الجديدة، وبدا أن شرودها انتقل إلى أحوال نفسها حين تراجعت شفقتها على محدثها، قالت (تريد يوسف) : 

- لدي صديق يعاني بعد وفاة زوجه، القرب منه ألم نفساني، والبعد منه وزر أخلاقي.. ماذا ترى في أمره؟ 

- هل أبدى تحسناً باتساع البون الزمني بينه وبين مصيبته؟ 

- بات يقبل مني صحن الشوفان حين يحدث وأسربه تحت عتبة بابه، ولكنه في عزلة مقيمة ضربها على نفسه ولا يخرج منها. 

وقال الرجل وهو يعود يلبس نظارته : 

- فلتتركيه حتى يسترد عافيته المعنوية بنفسه، كل شيء يُنسى بمرور الزمن، والتواصل الاجتماعي مما يعيق المراجعة الذاتية. 

 وقالت تستنكر حديثه : 

- بحق السماء أيُترك فاقد الشهية حتى يموت؟ الصديق وقت الضيق، وإلا فمتى؟! 

- مهلاً،.. مهلاً،.. أهو على هاته الأهمية؟

وخفضت رأسها وهي تمسك بطرف المفرش المطرز : 

- أجل، وأكثر. 

- هل له من أقرباء؟ 

- لم يبقَ من أهليه إلا أخته الكبرى : هدى، ونجلاه : حسين المقيم في زيزينيا مع زوجه وابنيه، وزهير الوحيد في باريس.

ونهض عزت عن الطاولة يقول في حماسة : 

- فلنقصد إلى أخته الكبرى إذاً (ثم وهو ينادي على أبيه..) سأستعير الكارو، أبتِ.

ولم يكد ينتظر جواب أبيه بالقبول حتى نظر إلى سميحة يقول كأنما كسب نقطة في لعبة أو أجاد التقدير في مسألة : 

- ألم أقل لكِ بأنني حوذي،.. حوذي بالوراثة؟! 

وتخبط الناهض في حركته فجذب طرف المفرش اليدوي وتبعثر ما فوقه من فازة نحاسية ذات مقبضين، وتركت سميحة جلستها مضطربة، وحضر الأب يقول آسفاً : 

- كم أخشى على دنجل منك..!

وأزاد ينصحه فيقول :

- لا تدخل به شارعاً عُلقت فيه رؤوس البقر أو الجاموس وإلا جفل وفزع، ولا آخر به ماء وإلا حرن وامتنع.. 

 كان عزت يجتهد في قياد الحنطور لضعف رؤيته فمضت أحواله بين الاعتذار من المارة وبين الاستماع لسميحة التي تشرع توجهه، فتصرخ تقول :

- الحذر ! سيصدم الحنطور عربة الأوطة (الطماطم) ! 

حتى إذا تدارك عزت انحرافه عن جادة السبيل بعض تدارك كاد يدهس عابراً أو هو يزلف إلى أن يخوض في بالوعة، ولكنه ظل على ثقة لا أساس لها يقول : 

- سنصل إلى أخته أقرب مما نتصور. 


 اقرأ أيضاً : 

الفصل الثاني:   لقد طردتها !

الفصل الثالث :  لا أصدق أنكَ عازف هارمونيكا

الفصل الرابع :  متشاجري الورود

الفصل الخامس : لقد أرسلني إليكِ يوسف..

الفصل السادس: آمل أن أراه

 الفصل السابع: أنصت إلى الناي يحكي حكايته

الفصل التاسع: العودة إلى الإسكندرية

الفصل الحادي عشر: فلتمنحه لها كهدية صلح

الفصل الثاني عشر:  بات يطلب لنفسه العزلة

الفصل الثالث عشر: لا أريد التحدث عما يؤلمني ذكره

الفصل الرابع عشر:  لقد تغيرت كثيراً

الفصل الخامس عشر: الرحلة أهم من العقدة

الفصل السادس عشر:  رسالة من عبد العزيز

          الفصل الثامن عشر: شخصيتنا والقدر

الفصل الثامن عشر:  أسطورة بئر مسعود

الفصل التاسع عشر :  لقد حققت البئر أمنيتي..

الفصل العشرون :  ما وراء الصداقة