اكتفيت منكِ حباً

 اكتفيت منكِ حباً





في ناحية من نواحي الكازينو يجلس رجل بدين وعجوز، على المنصة تؤدي راقصة شابة رقصة استعراضية رفقة مغني ثم تدخل إلى حجرتها لتغير ملابسها، وقال لها المغني (مصطفى)  : 

- الراجل كان ناقص شوية وياكلك بعنيه، إيه قلة الحياء دي؟ 

وقالت الراقصة (نوال) : 

- ناس مخمورة، ومبيجوش هنا إلا لما تكون دنيتهم ملغبطة، عايزين حاجة تشغلهم عن نفسهم وخلاص، تتوقع منهم إيه يعني؟ 

- يعني أنتِ معندكيش مشكلة؟

 - عندي طبعاً، بس إيه العمل؟ 

- أنا زهقت من الحرام، حشوف أي منتج يعمل لي ألبوم غنائي، ويمكن تضرب معايا، فينك يا نصر يا محروس. 

- من غير زعل يا مصطفى، أنت صوتك تمام للكازينو، إنما مش علي الحجار يعني. 

- عارف، بس من أمتى كانت بالصوت، الدنيا حظوظ، لو بالصوت كان يبقى حمو بيكا المغني رقم واحد في مصر؟ الناس عايزة أي هبد وخلاص، مقسوم بيرقص، ودوم تاك.. تاك دوم... تاك، ونغمة تدخلهم في غيبوبة، أنت عارفة سواقين التكاتك بيشغلوا مهرجنات ليه؟ عشان ده غيبوبة سمعية جمب المخدرات اللي بيشربوها، متسبعديش أي حاجة، عمرو دياب كان شاب عادي في بورسعيد لحد ما الزهر لعب معاه، ولقى الفرصة، ومحمد منير أول ما بدأ مكنش حد عايز يعترف بيه عشان شكله ولون بشرته. 

- حتغني مهرجنات؟

- حغني أي حاجة تأكل عيش نظيف. 

- ربنا معاك. 

- وأنتِ؟

- أنت ليه بتتكلم كأنك أخوي الكبير؟ 

نظر إلى صورتها، بهرجة الملابس، زينتها.. إلخ، قال : 

- أنا الوحيد اللي في المكان ده اللي بيخاف عليكِ، مش بعاملك كسلعة. 

- عارفة، بس ما باليد حيلة. 

- مش صح الكلام ده. 

- أزاي؟ 

- لما ترضي ربنا حتلاقيها بتتسهل، ربنا أدانا إرادة، لما نبقى مغلوبين على أمرنا كده بنبقى بنهين الإرادة دي، وشعلة ربنا فينا بتطفي، الإنسان وهو بيعمل الخير بيبقى قوي، لأن الخير هو الطريقة الصح لعمل أي حاجة.

- مش حتديني موعظة يا مصطفى، أنت كمان مغني يعني مش بتبيع سبح، أنا بحب الرقص، أنتوا بتبصوا له على أنه شهوة، وأنا شايفاه بهجة. 

 أضعف الإيمان يبقى الرقص في مكان نضيف، مش كله مخمورين وقرف. 

ودخل عليهما رجل أربعيني (اسمه زكي)، بدا مضطربا وكأن وراءه أمراً، وقال : 

- الأستاذ السنهوري عايز يقابلك يا نوال، ده راجل متريش (غني) محتاج معاملة خاصة، الساعة الذهب اللي في إيده دي قد مرتبك شهر. 

وتساءل مصطفى في استخفاف : 

- مين السنهوري ده كمان؟ هي السماء بتحدف ولاد حرام هنا. 

وقال الرجل الأربعيني  (زكي) : 

- ملكش دعوة أنتَ بالحاجات دي.

- أومال ليا دعوة بإيه؟ أنا شريك لنوال على المسرح. 

وبدت ابتسامة سخرية على وجه زكي، وقال : 

- أنت آخرك تضبط المقام، نهاوند، حجاز، صبا، كرد، تسلطن الناس، تخلي عقولهم تروح، وتمهد الطريق للنجمة الحقيقية للعرض، نوال هانم، أكتر من كده تبقى بتخدع نفسك. 

- أنا عايز أقدم فن حقيقي.

- أحنا مش في معهد الموسيقى العربية، ده كازينو يا بيه، يعني مكان انبساط وشكرا، والفن عمره ما كان رسالة، إحنا مش شيوخ، لو عايز تدروش ادروش في مكان تاني، خليك خفيف وبلاش تكبر الدنيا، الرزق يحب الخفية. 

- كل المغنيين الكبار بدأوا من كبريهات، وبعدين الفن ده نعمة من ربنا، الأطفال بيرقصوا على النغمة، ويصفقوا عليها، ولما بتسمع نغمة حلوة بتقول : الله. 

- ربنا معاك، حل عن نفوخنا، الدنيا مش واقفة عليك. 

ودخل السنهوري حجرة الثلاثة، فيما جعل زكي يقول :

- اتفضل سنهوري بك، بيتك ومطرحك، ده شرف لينا كبير أوي. 

 فتبين أنه ذلك الرجل العجوز البدين، يلبس بذلة سوداء أنيقة، ويضع منديلاً أحمر في جيبها، بدا مهيباً وطويلاً، ولديه حراسة : رجلين بودي جارد، وتقطع قدمه مسافة كبيرة في كل خطوة، وقال مصطفى : 

- أنت يا أفندي، كنت عمال تبص لزميلتي بصات مش تمام، احترم سنك وشيبتك. 

وتدخل زكي في لهجة حازمة وغاضبة :

- أنت اتجننت يا ولد؟ ده استقبال يصح لأهم زائر هنا.

وقال السنهوري في هدوء :

 - الحقيقة أن الأستاذة نوال تخطف العقل.

وقال مصطفى متمرداً على كل القواعد : 

- الحقيقة أنك راجل ناقص، وقد جدي، فوق الستين ولسه متخيل أن فيك صحة. 

وغضب السنهوري حتى خرج من فقاعة الهيام الزائفة فقال : 

- الحرس بتوعي ممكن يعلموك الأدب.. 

وتمادى مصطفى في تحدي السنهوري ومن معه، حتى ضربه الحرس فترك الكازينو بين المهانة والحزن، وتركت الخناقة أثراً واضحاً في وجهه وكتفه، وقالت نوال لزكي : 

- أنا مش حرقص تاني قبل ما حق مصطفى يرجع.

وقال زكي : 

- يرجع من مين؟ السنهوري ده كان مسؤول مهم جدا في الحكومة، يعني عنده معارف ممكن تودينا كلنا ورا الشمس، الحقيقة أن صاحبك غلط فيه جامد.

- غلط فيه عشان كان عايز يدافع عني، هو بيحبني، ووقف وقفة شجاعة ورجولة، أنت عارف الشعر العامي اللي بيقول : شرط المحبة الجسارة، أهو ده ينطبق على مصطفى. 

- متعمليش فيها سعد زغلول.

- أنا عايزة أبقى محترمة. 

- لو عايزة محدش يتعرض لك استري نفسك ومشوفش وشك أنت كمان. 

- أكل العيش مر، طول عمري مقطوعة من شجرة، الحياة بتختلف لما يبقى وراك أهل وظهر بجد. 

- على فكرة السنهوري معجب بيكِ، ده ظهرك.

وبدا على وجهها أثر الامتعاض فقالت : 

- ده قد جدي، وشكله طمعان فيّا. 

- عرفت منين؟

- الست بتحس من نظرة.. 

- اتجوزيه، تحمي نفسك وتأمني مستقبلك وسيبي الرقص، شوفي أنا من مصلحتي أقولك كملي رقص عشان أكسب من وراك، بس أنا خايف على مصلحتك. 

وفي المساء تجهزت السهرة الموعودة، جاء زكي بمغني آخر بعد مصطفى، غنى لعدوية وحسن الأسمر، وشاكوش (بنت الجيران).. إلخ، ولبست نوال ثوباً محتشماً نسبيا بالنسبة إلى راقصة، كانت قد بدأت طباعها تتغير، ودارت في نفسها مشاعر مختلفة، وعند منتصف العرض صعد السنهوري رفقة حرسيه على المنصة، ألقى بالأموال على جسد نوال، لم تحتمل الفتاة تجاوزه، رأت نفسها سلعة تُباع وتشرى، غضبت لكرامتها، وتوقفت فجأة عن الرقص وقالت :

- 3 أنفار على المنصة؟ الحرس بتوعك دراعهم قدي، أرقص أزاي وسط الجبلات دول. 

وقال السنهوري وهو يشير إلى حارسيه بالنزول عن المنصة : 

- انزل أنت وهو،.. إحنا آسفين. 

وتوجهت إليه بالحديث دون أن تخف نبرتها المهاجمة : 

- أنت صبح ليل هنا، أنتَ ملكش بيت؟ 

- بيتي هو الكازينو اللي فيه كل الجمال ده.

- جمال؟ أنت بترمي عليا الفلوس كأني سلعة رخيصة. 

- الناس كلها سلع في الدنيا.

- أنت شايفهم كده، كل واحد بيشوف الحاجة بعين طبعه. 

واحتد بينهما - نوال والسنهوري - النقاش حتى وصمها بوصف مشين فصفعته، وشعر السنهوري بالمهانة أمام الحضور، وعزم على معاقبتها فلفَّق لها قضية حيازة مخدرات، ووصلت الأخبار إلى مصطفى الذي ترك الفن عبر صديقه في الكازينو وليد، وقد عمل مصطفى فترة في بيع الخبز في محطة مصر، والنوم في المساجد، وقال حين سمع ما وقع لصديقته : 

- لازم انتقم من ابن الحرام ده.. 

وقال وليد وهو يرقب هذا الخبز الموزع على عربة خشبية متحركة أمام مبنى المحطة الكبير الأبيض :

- سيبك منه، ده نابه أزرق وأنت غلبان، أحنا هاموش بالنسبة للناس دول، حصى على الأرض.. 

- أنا طيب مش غلبان..

- الاتنين واحد.

- لأ مش واحد، وحتشوف بنفسك.. 

- حتعمل إيه؟

- بكرة تشوف بنفسك.

وانتظر مصطفى خروج السنهوري من الكازينو، هناك أطلق النار لتشتيت البودي جارد، خرج ملثما وخطف الرجل بين حرسيه في مهارة، وانفرد به في غرفة بيته الفقيرة، وقال :

- تعرف، أنا حسمعك موسيقى قبل ما اخلص عليك. 

كان في بيت مصطفى بيانو قديم، وراح يعزف أغنية : "قال إيه بيسألوني عنك يا نور عيوني، معقول أكون بحبك أكتر من نفسي" لوردة الجزائرية، راح يطلب من السنهوري أن يرد عليه في مناطق الكورال، وقال ساخراً : 

- صوتك عامل زي نهيق الحمارة.. 

وقال السنهوري : 

- مش أوحش من صوتك،.. أنت فاكر نفسك مغني بجد؟

ورفع مصطفى السلاح على جبهته وقال : 

- كلمة واحدة، نوال تخرج من السجن من القضية اللي لفقتهالها، وإلا اعتبر نفسك في خبر كان.. 

وبعد أيام خرجت نوال من محبسها، وقال مصطفى لها : 

- إحنا ملناش عيش في البلد دي بعد اللي حصل، أنا بحب البلد دي، لدرجة أني مستعد أتحمل الظلم فيها، بس السنهوري مش حيسيبنا في حالنا.

وقالت :

- فعلا، نروح على فين؟

- بلاد الله واسعة. 

- أنا خايفة من الهجرة.

- أنتِ ملكيش أهل في مصر، وده حيسهل عليك الغربة كتير. 

 وسرعان ما ترك مصطفى البلاد رفقة نوال، فر الاثنان إلى ليبيا، هناك تزوجا وأنجبا طفلين جميلين : نائل وشاهندة، وقدر لعشقهما أن ينجو من لعنة الظلم، فيكتفي مصطفى من نوال حباً، وسجل مصطفى أول ألبوم غنائي له فكان طفلاه يرقصان على أنغامه فرحاً، وعاشا في ليبيا ثماني سنوات حتى وفاة السنهوري بجلطة دماغية، فعادا إلى الوطن بعد سنين الاغتراب، وقبل مصطفى أرض الوطن راضيا وآمنا، وحين سأل عن الكازينو أجابه صديقه وليد : 

- زكي اتقبض عليه في قضية مخدرات، والمكان اتحول لمسجد.