أول يوم في الجامعة
لم يكن اليوم كغيره من الأيام، فسارة ستذهب لأول مرة إلى كلية الآداب، وهذه أمها سعاد تقول لها :
- خلي بالك من نفسك !
- متقلقيش يا ماما !
- ولاد الحرام مخلوش لولاد الحلال حاجة !
انزعجت سارة فقالت :
- يوووو، هو أي حاجة أعملها لازم تبقى خطيرة كده، وولاد حرام وحلال، ناقص شوية تقولي لي متشربيش كوباية ماية! أخويا حسين بينزل ويرجع وش الفجر ومفيش مشكلة.
وقالت أمها في هدوء استفزها :
- أخوكي ولد وأنت بنت
وارتسم العجب على وجه سارة فقالت :
- ده يخلي معاه شيك على بياض يعني؟ ما في ولاد بيعملوا مصايب!
- عيب تقولي كده على أخوكي، هو مش زي أي حد، وبيشتغل على نفسه..
- يعني بيرجع ليه وش الفجر لما هو بيشتغل على نفسه؟ تفتكري بيعمل ايه؟
- وأنت مالك؟ أنت عايزة تتوهي على الموضوع، اسمعي : مش معنى أنك تروحي الجامعة أنك تفقدي الالتزام والحشمة والآداب اللي تعلمناها في البيت.
وأبدت سارة قبولاً مهذباً فقالت :
.حاضر يا ماما
جلست سارة في ركن حجرتها تفكر في أيامها القادمة، كانت متشوقة إلى هذا العالم الجديد، إلى هذه الدنيا التي تنفتح أمام عينيها البريئتين، هي تشعر بالقمع دائما، فخياراتها قليلة، وحان وقت التحرر، وفي أول يوم جامعي لم تستطع الوصول إلى الكلية، تاهت في الشوارع وهي حديثة تجربة بالحياة، وسألت عابري السبيل، ووجدت شابا ًيقول لها :
- أنا رايح مجمع الكليات اللي على البحر..
تبعته حتى وصلا، وبالصدفة كان الشاب منتظماً مثلها في كلية الآداب، وتفرقا عند باب قاعة المحاضرة فسألته عن اسمه :
- أحمد..
- شكراً..
وأجابها على عجل :
- العفو!
غاب الشاب في تيار الطلاب، ينقسم المدرج إلى ثلاثة أجزاء، يجلس الأود على اليمين، والبنات على الشمال، وفي المنتصف مختلط، جلس أحمد على اليمين، وبقت سارة في المحاضرة على اليسار شاردة الخيال، وسمعت صوت أمها في خيالها يرن : "مش معنى أنك تروحي الجامعة إنك تفقدي الالتزام والحشمة والآداب"، ونظرت إلى موقع الشاب فوجدته منصتاً ومنتبهاً للمحاضرة، ثم حانت منه التفاتة عابرة إلى يساره فلمحها، والتفتت عنه في حياء، وتورد خدها، هي ذات جمال متوسط ولكن الحياء يضفي عليها بهاءً خاصاً، وأما هو فخجله ظاهرة صحية تحد من جموح الشباب، عادت إلى البيت فوجدت أخاها حسين يقول لها في استهتار :
- مالك تايهة كده؟
- أنت مالك؟
- مين اللي ماله؟ أنا أخوكِ يا بنت.
كان يجلس وسط أصحابه، شلته التي يدعوها كل يوم خميس لغرض في نفس يعقوب :
- أنا عايزة أنام، أنا تعبانة بعد 3 محاضرات، ممكن تسكتوا شوية؟
وأجابها في استفزاز :
- لأ، مش ممكن يا آنسة سارة، اللي عايز ينام هينام في الطبل.
ونامت وسط الصخب قليلاً، فتحت جفناها بعد فترة، لا تدري كم نامت بالضبط، خرجت من حجرتها فوجدت دخاناً، صرخت :
- يا نهار أسود يا حسين، بتشربوا مخدرات في البيت؟
أمسك أخاها بفمها، كانت المخدرات قد سيطرت على عقله حتى فقد صوابه، قال لها مهددا :
- لو قولت حاجة لماما مش حيحصل كويس.
دفعته بقوة، حاشت أقدامها أصحابه، قالت :
- حقول يا حسين ! وأنت مش حتخوفني..
هذه المرة دفعها وضربها بيده، ذهبت إلى حجرتها تبكي، انفض مجلس الأنس، ولكن هناك مشكلة لم تحل، فسارة اطلعت على السر، وحسين لم يعد يأمن من أخته، وذات يوم ينكشف الأمر الكامن، حين عادت الأم سألتها :
- عملت إيه في الكلية؟ بصي، أول يوم في الكلية ده بيفضل محفور طول العمر في الذاكرة.
تركت ضربة حسين في وجهها أثراً، تساءلت الأم قبل أن تسمع الجواب :
- يا نهار أبيض، إيه اللي في وشك ده؟
وقبل أن تتحدث قال حسين :
- الآنسة عملت خناقة جامدة مع زميلتها في الكلية، خناقة بنات يا ماما.
وعلقت الأم :
- خناقة بنات تعمل كده؟ دي بنت مفترية أوي..
وقالت سارة :
- آه، هي بنت مفترية لدرجة تحسيها كأنها ولد شارب حاجة..
وحاول حسين دفع أخته بعيدا، وهو يقول :
- كفاية كلام، لازم تعملي لها كمادات عشان متورمش !
في الحمام همس حسين في أذنها :
- أوعى تكوني فاكرة أني مش عارف..
نظرت له في دهشة وقالت :
- عارف إيه؟ أنا سترتك قدام ماما..
- الواد اللي مشيتي معاه النهاردة ده.
- مشيت معاه؟ أنت باعت حد ورايا يراقبني..
- لو قولت لماما على المخدرات حقولها على الواد.
وغضبت من حديثه فعلقت :
- مفيش حاجة بيني وبين الواد ده أساسا، أعلى ما في خيلك أركبه..
- محدش حيصدقك، ماما بتحبني وبتصدقني..
- أنت مريض يا حسين.
- وأنت طيبة وحتسمعي الكلام.
ورغم أنها لم تقتنع بحديثه إلا أنها آثرت السلامة في النهاية، ربما دفعها استفزازه لها إلى الغضب قليلاً، ربما فكرت في البوح وفضحه رغم كل شيء، ولكن ماذا لو لم يصدقها أحد؟ سيعود أبوها حسن من عمله في الكويت في إجازته القريبة، هي تجد الراحة في الحديث إليه، إنه يصدقها ويحبها، وفي اليوم التالي وحين ذهبت إلى الكلية باتت ترقب من يتعقبها في الطريق، هي مراقبة، قلبها يخفق بالخوف، ووجدت الشاب (أحمد) الذي قابلته بالأمس، واقترب منها يقول :
- أهلا..
حاول الحديث إليها ولكنها تحاشته، وجعلت تجري عنه بعيداً، ظل الشاب (أحمد) يرقبها في عجب، ولعله تساءل : ماذا حدث لها خلال هذا اليوم؟ حين انتهت المحاضرة اقترب منها يسألها :
- ممكن أعرف جريتي ليه؟
وصدته :
- ممكن تسيبني في حالي.
- لازم أفهم.
- بصفتك إيه؟
- بصفتي شخص قابلتيه أمبارح وساعدك.
ولم تطلعه على الحقيقة، وتحرجت من أن تقول أن أخاها يرسل من يراقبها، قالت :
- أنا مرتبطة وخطيبي بيغير من أي حاجة..
وصدمته العبارة فذهب عنها في هدوء، وأشفقت عليه كثيراً، وفي طريق عودتها إلى البيت سمعته يقول لها :
- أنا عارف أنكِ بتكذبي، نص البنات بيقولوا أنهم مرتبطين وهما مش مرتبطين، ونص الولاد بيقولوا أنهم سينجل وهما مرتبطين ! الموضوع ده في إنَّة، لازم تكلميني يمكن أقدر أساعدك.
لم تحدثه وعادت تجري بعيداً حتى عادت إلى البيت، كان قلبها يخفق في شدة، وحين عادت إلى البيت وجدت أباها حسن وقد عاد من الكويت، وانفجرت في البكاء :
- ابنك حسين بيبعت ورايا ناس تراقبني في الكلية.
وتوجه الأب إلى ابنه يسأله في ذهول :
- حصل الكلام ده؟
- بنتك كذابة يا حاج حسن..
- مش مصدقك.
- ليه؟
- عشان لما بتقول لي حاج حسن بتبقى بتغطي على كذبة.
وتدخلت الأم :
- مش ممكن حسين يعمل كده.
وعلقت سارة :
- حسين ميعملش غير كده أساسا، أنتِ بس اللي عايشة في اللالاند.
وقال الأب (حسن) :
- عيب يا سارة تكلمي أمك بالطريقة دي.
- مفيش حد بوظ حسين غير حنية ماما.
وقالت الأم :
- باظ إزاي يعني؟ هو جهاز كمبيوتر؟
وضحكوا فتضايقت سارة، وقالت :
- حسين بيجيب صحابه يشربوا وينبسطوا في البيت.
وكأنها ألقت قنبلة، وقال أخوها (حسين) :
- واضح أن انحلالك خلاكي تتخيلي حاجات مش موجودة.
وقالت سارة :
- اسكت يا سافل.
وعلق الأب :
- في حد فيكم كذاب، يارب إيه اللي بيحصل ده ! أروح الكويت يومين أرجع ألاقيم كده، أنتم الاتنين مش حتخرجوا من البيت ده قبل ما أعرف مين الكداب فيكم.
وجدت سارة أباها حائراً وحزيناً، لا تريد الفتاة أن تكون سبباً في تعاسته ولو كانت مظلومة، جوهرها النبيل يطغى على كل أفعالها وتصرفاتها، وقالت :
- يعني أنا ذنبي إيه يا بابا، حفوت محاضرات مهمة.
وقال حسين في استفزاز :
- معلش يومين مش مشكلة متشوفيش فيهم حبيب القلب !
وتساءل الأب :
- مين حبيب القلب ده؟
وقال حسين :
- أحمد، اسمه أحمد !
وقالت سارة:
- ده شاب دلني على مكان المجمع (مجمع الكليات)، مفيش أكتر من كده، بس هو حسين عشان شيطان فبيتخيل أن الناس كلهم شياطين زيه.
لزمت سارة البيت مع أخيها حسين، لا تدري أيهما يشقيها أكثر، هذا الحبس الثقيل، أم مرافقة أخيها، ونظرت إلى نافذة البيت فوجدت شاباً يعبر الطريق، ودققت في معالمه فهمست:
- أحمد !
بمجرد حضورأحمد إلى البيت علق حسين أمام أبيه :
- جالك كلامي يا بابا؟
وقال أحمد :
- أنا جاي هنا لأني حاسس أني اتسببت في مشكلة، الحقيقة أن مفيش حاجة بيني وبين سارة، علاقتنا أقل من الزمالة.
وقال حسين :
- وعرفت اسمها منين؟ الكذب ملهوش رجلين..
وقال أحمد :
- زميلاتها في الكلية قالوا لي إن أخوها بيتبلى عليها عشان يغطي على فساده.
وابتسمت سارة ابتسامة ظافرة منتصرة وقالت :
- الحمد لله إن الحق ظهر.
وقال الأم :
- يعني نصدق الغريب ونكذب ابننا.
وقال الأب حسن :
- كفاية دلع، أنا راجع الكويت، وأنت يا حسين مفيش خروج ليك قبل أسبوعين وتقطع صلتك بالشلة إياها وإلا حيبقى في كلام تاني.
ومثل الأمل الذي يجتاح نفقاً مظلما، سعدت سارة بحديث أبيها، حديث الإنصاف الذي جعلها ترضى.