كبرياء عاشقة
مضت أجمل أيام العمر، وهذه سعاد وقد أتمت السادسة والثلاثين دون زواج، إنها تبحث عن هذا الحلم الضائع في زحام الحياة، وضعت لفارس أحلامها صفات هي مزيج بين وسامة براد بيت، وفروسية أحمد مظهر، وابتسامة عمر الشريف، وثقافة جورج قرداحي، فكان من المحتم أن تبقى وحيدة، لكنها تعتز بوحدتها، وتعيش هذه الأحلام كأنها حقيقة، وقالت أمها :
- الصراحة حالك بقى يصعب على الكل..
- حال إيه اللي يصعب على الكل بس! أنا دكتورة في كلية الطب، يعني حاجة بيوصلها أقل من 1 في المائة..
- بس مش متجوزة.
- وإيه يعني؟ البشرية 7 مليار نفر، مش حننقرض لو متجوزتش، إحنا مش باندا..
- بالذمة دي إجابة يعني؟ المشكلة إنك مستنية حسين فهمي، مفيش حسين فهمي..
- آخر عريس جبتهولي كان تاجر فاكهة ورمان !
- وماله؟ الرمان من الفاكهة على فكرة.
- ده كان بيفك الخط بالعافية، لازم حد يبقى على نفس مستواي العلمي والثقافي، مش أقل من مهندس..
- مفيش زميل في كلية الطب ينفع لكِ.
- الطلبة صغيرين عليَّ، والأساتذة كبار.
- إيه رأيك في أبوكي؟
- ياريت يتقدم لي حد زيه.
- أبوكي كان خريج حقوق..
وأحكمت الأم سيطرتها على الحديث بالعبارة الأخيرة، فقالت سعاد في شيء من الأسف :
- بابا استنثناء، هو طباعه ناشفة بس أنا بحبه، وبعدين حقوق زمان غير حقوق دلوقت، زمان كان بيقولوا عليها كلية الوزراء، دلوقت زي ما أنتِ شايفة، اللي مذكرش في الثانوية بيدخلها بأي مجموع.
- سيدنا محمد بيقول..
وقاطعت سعاد حديث أمها بالتمتمة :
- صلى الله عليه وسلم..
- سيدنا محمد بيقول : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه..
- ماختلفناش يا ماما، الأخلاق أهم حاجة، بس يكون بيعرف يفك الخط الأول، عشان يفهم يعني إيه أخلاق أساسا، مش تقولي لي تاجر فاكهة ورمان..
- عمتك قعدت تتشرط كده، شوفي حالها دلوقت عامل أزاي، قاعدة لوحدها وبتفكر تتبنى طفل من الملجأ..
واستفزت سعاد من حديث الأم كأنها وعاء امتلأ بالماء الساخن حتى فار، وقالت :
- وإيه مشكلتك مع التبني؟ مفيش أشرف من التبنى في الدنيا، عبد الحليم حافظ كان طفل في ملجأ..
وجلست سعاد آسفة على مكتبها، حاولت التحضير لمحاضرة الغد ولكن رأسها يعود إلى النقطة التي تهرب منها، ونهضت إلى المرآة فتبين أن الزمن قد نال من وجهها قليلاً، إنها تلبس نظارة طبية حمراء كبيرة، لقد قضت السنين في المذاكرة، لها وجه جميل يتورد خداه، وأنف متوسط، وملامح متناسقة، ولكنها لم ترَ أي شيء مميز في صورتها، كانت غاضبة حتى حجب انفعالها رؤية كل هذا، وجعلت تهمس : "يا رب أخلص من حياتي دي ! مفيش أسوأ من بنت تتولد في مجتمع شرقي، كل حاجة مشكلة، من أول لبس الفستان لحد النزول بالليل"، وسمعت أمها تنادي عليها :
- أبوكي عايز يكلمك !
وظهر أبوها إبراهيم، يبدو مثل سي السيد، شخصيته تجمع بين الاستبداد داخل البيت والرغبة في التسلية خارجه، وقال لها :
- اسمعي يا سعاد، طول عمري كنت شديد معاكِ، في التعليم والتربية، بس أنا مش حجبرك على الجواز، لأن المثل بيقول كل شيء بالخناق إلا الجواز بالاتفاق، أنا عندي حل لمشكلتك..
- دي مش مشكلة أساساً، الجواز قسمة ونصيب، مش ممكن كنت اتجوزت وخلفت عيل معاق مثلاً أو ربنا يبتليني بزوج يقمعني؟
وأظهر إبراهيم وجهه الحقيقي فقال :
- بطلي لماضة، تسيبي الجامعة وتفتحي عيادة أو صيدلية، هناك حيبقى عندك فرصة تقابلي حد من سنكِ.
- بس..
- مفيش بس..
وقدمت سعاد استقالتها من الجامعة مضطرة، وفتحت عيادة في المجال الذي تخصصت فيه : الجهاز الهضمي، حتى كان هذا اليوم الذي زارها فيه شاب تحققت فيه الشروط التعجيزية : وسامة براد بيت، وفروسية أحمد مظهر، وابتسامة عمر الشريف، وثقافة جورج قرداحي، وحاولت أن تخفي إعجابها به وقالت :
- أنت عندك قولون عصبي، IBS، تبعد عن التوتر، وحاول تشرب مية وتاكل فواكه وخضروات، ونظام غذائي مفهوش زيت أو دهون، حكتب لك الدواء..
وكتبت له الدواء بخطها غير الواضح، كعادة الأطباء، وقال لها :
- مش فاهم دي..
- تاخده مرة الصبح ومرة بالليل..
- هو ليه الدكاترة بيكتبوا بخط مش مفهوم كده، ده كيف عندكم يعني؟
وسعدت بسؤاله لأنه اتاح لها فرصة الحوار :
- الامتحان في كلية الطب بيبقى طويل، لازم تجاوب بسرعة وإلا حتسقط، ده بيخلينا نتعود على الكتابة كده، أنت كلية إيه؟
- هندسة !
وفلتت منها ابتسامة، وعاد يقول :
- بس أنا مكملتش فيها، لأن عمري ما حبتها وربنا فتح عليا من باب رزق تاني..
- أوعى تقول تجارة فاكهة ورمان !
- فاكهة ورمان إيه يا أستاذة، أنا شغال في تربية المواشي.
- يعني كده فرقت؟ حد يسيب هندسة ويربي مواشي؟
- ده حال بلدنا.
وتعزت بصورته الوسيمة وقالت :
- تمام، والدنيا ماشية؟
كانت جبهته تتصبب عرقاً، وقدمه تتحرك في عصبية، وقال :
- لأ، كان معايا شريك نصب عليا، ومن ساعتها وأنا متوتر ومكتئب، على فكرة العرب أسوأ ناس تعمل معاهم شراكة، لازم تخلص حقوقك بالعافية.
وقالت :
- الدواء حيساعدك، بس نصيحة لازم ترجع تكمل هندسة.
- ليه؟
ولم تستطع أن تفسر إلحاحها عليه، فقالت :
- عشان ميبقاش في ملف في دماغك مش مكتمل، ده بيسبب توتر بردو.
- مفيش حاجة بتسبب توتر زي امتحانات هندسة، الدكاترة كيفهم يذلوا الطلبة ويعجزوهم، هندسة إسكندرية بالذات معروفة أنها كلية مشكلة، تطلع منها وأنت مستهلك نفسيا.
- مش كل الدكاترة كده على فكرة.
- أزاي؟
- أنا دكتورة في كلية طب وعمري ما ذليت حد.
- أنا عندي 33 سنة دلوقت، يعني بعد ما شاب ودوه الكتّاب.
- سيبك من الكلام ده، الإنسان بيفضل يتعلم لحد ما يموت.
- الموت ده حاجة مفزعة بردو، لازم أنام والنور مولع وإلا جاتلي كوابيس، شكلي محتاج دكتور نفسي.
ونهض وهو يقول :
- تشرفنا.
- تيجي كمان أسبوع عشان نتابع الحالة، خلي بالك من صحتك النفسية، لأن القولون العصبي ممكن جدا يعمل اكتئاب..
- الحقيقة أن حالتي النفسية اتحسنت لما شوفتك واتكلمت معاكِ، لأول مرة من مدة.
ووقع الصمت في الحجرة لثوانٍ ثم انصرف، وبدا حديثه الأخير أكبر من علاقة طبيب ومريض، وقد نست أن تسأله عن اسمه، ولكنها عرفت من مساعدتها أن اسمه وائل، وعادت إلى البيت وفي عقلها خيالات وردية رائعة، لقد عثرت على منالها أخيرا، وسمعت أبوها يقول لها :
- جبت لك عريس..
- مين؟
- زميلك الأستاذ منصور في كلية الطب، جالي البيت النهاردة وقالي إنه زعل لما قدمتي استقالتك، وعايز يتقدم لك، هو عنده مشاكل في القلب بس غير كده تمام.
- بس ده أكبر مني بكتير.
- أنتِ مش قولت عايزة الشهادة، جبنالك الشهادة..
- الشهادة والشكل والشخصية..
- حيلك، ده فين حتلاقيه ده؟
- لاقيته في العيادة.
وحكت سعاد لأبيها قصة مريض القولون العصبي وائل، وقال لها حين انتهت :
- يعني تفضلي عيل مكملش تعليمه وبيربي مواشي على أستاذ محترم في كلية طب، عشان شكله حلو، محدش عارف البنات بيختاروا أزاي، ولا هم شخصياً.
- حيكمل تعليمه..
- لمّا نشوف..
ومر أسبوع ولم يحضر وائل إلى العيادة، ومضت الأيام حتى الشهر، وبدت الدنيا سوداء في عينها، وعند التاسعة مساء تأهبت للانصراف عن العيادة، ولكنها سمعت مساعدتها تقول لها :
- لسه في حالة يا دكتورة سعاد.
وتمنت أن يكون هو، ولكنها وجدت أستاذ الطب منصور الذي قال :
- أنا جيت عشان أهنيكي على المجهود الكبير والعيادة الجميلة دي.
وأجابت في فتور :
- شكرا.
- أنا فاتحت السيد الوالد..
وقالت تحت وطأة اليأس :
- معنديش مشكلة..
- فعلا.
وانصرف منصور وجلست وحيدة، وأخذت تبكي، حتى جاء من ربت على كتفها، ورفعت رأسها فوجدت وائل الذي قال :
- أنا رجعت لهندسة..
- أتأخرت ليه كل ده؟
- قولت لازم آجي العيادة بعد ما أكون حسنت من نفسي.
- أنا أديت كلمة لحد تاني.
- كلمة بخصوص إيه.
- بخصوص الارتباط.
- فعلا، أنا كنت عايز افاتحك في الموضوع ده..
- أبوي متربس جامد، ومصمم عليه.
- إيه العمل دلوقت؟
أقنعته بأن يزور أباها ليحدثه، واستقبله أبوها في احتقار :
- معندناش بنات للجواز،.. روح لحظيرة المواشي اللي جاي منها يا شاطر.
ومضت الأيام قبل يوم الزفاف الكئيب، وحضرت سعاد وقد جرح حضورها لحفل كبرياءها، ولكن الأستاذ منصور لم يحضر، وطال الانتظار حتى تهامس الخلق بالخبر :
- منصور جاتله أزمة قلبية !
وقال آخر :
- لا حول ولا قوة إلا بالله.. ملحقش يفرح.
وانفض الحفل وهدأت الدنيا بعد الخبر، ومضت السنوات ووائل يجد في المذاكرة حتى أنهى كلية الهندسة، ووصمت سعاد بهذه الزيجة التي لم تكتمل، وقال الناس :
- دي موتت العريس قبل ما يعمل حاجة..
وقالت سعاد لأبيها :
- بعد موضوع منصور ده كله بقى خايف مني، مفيش غير وائل، وأهو كمل تعليمه..
ونظر الأب إلى وائل نظرة ذات ريبة وقال :
- يبقى على خيرة الله !